بســم الله الرحمـن الرحيــم
والصلاة و السلام على أشرف المرسلين
سيدنا ونبينا محمد المصطفى الكريم
مقدمة
إن الالتزام بالتسبيب يعتمد على قاعدة ذات نطاق عام تنطبق على جميع الأحكام و القرارات الصادرة عن الجهات القضائية سواء كانت محاكم موضوع أو هيئات نقض، و يعتبر الالتزام بالتسبيب بذلك الضابط لحرية القاضي في تكوين عقيدته لدى نظر الدعوى المطروحة أمامه و مباشرة سلطته التقديرية وبالتالي فانه يكتسب أهمية بالغة بالنسبة لعمل القاضي و المتقاضي و الرأي العام إذ بموجبه يتوفر الاقتناع لدى الجميع بتحقيق العدل و الإنصاف من عدمهما، و تمثل المحكمة العليا في هذا السياق باعتبارها محكمة قانون الهيئة التي يؤول إليها تقويم هذا الالتزام من خلال مهامها المحددة في أحكام الدستور بالنسبة لجهات القضاء العادي، و ذلك وفقا لما تصدره من قرارات سيما تلك الرامية إلى النقض و الإحالة.
وهو الأمر الذي يفضي إلى إبراز دور المحكمة العليا بصفتها محكمة قانون في ممارسة مهامها، و ماهي الآثار المترتبة عن هذا الدور من حيث مدى التزام و استجابة قضاة الموضوع لمحتوى النقطة القانونية التي يتناولها قرار الإحالة واللذان من شأنهما تعزيز و تجسيد هذا الدور في إطار تأسيس الالتزام بالتسبيب علما بأن قرار المحكمة العليا يعد حوصلة لما توصلت إليه من خلال جميع معطيات القضية و الإجراءات المتخذة في شانها بالنظر إلى ما قدمه الأطراف خاصة إذا ما تعلق ذلك بطعن النيابة العامة التي يقع على عاتقها كجهة مكلفة بتطبيق القانون إبداء التماساتها في هذا المجال كطرف في القضية إذ أنها ملزمة بهذه الصفة بتقديم التماسات مفيدة في الدعوى وعليه فإن الإشكالية المطروحة بالنسبة لأسس الالتزام بتسبيب قرارات المحكمة العليا تتمحور حول نقطتين:
1- ما هو الإطار القانوني المؤسس للالتزام بتسبيب قرارات المحكمة العليا.
2- ما هي الآليات الإجرائية الواجب اتخاذها لتفعيل دور النيابة العامة في تحرير التماساتها.
ومن هذا المنظور سوف اكتفي بالتطرق لمضمون محور النقطة الأولى المتمثلة في الإطار القانوني المؤسس لالتزام تسبيب قرارات المحكمة العليا في صورة خطوط عريضة قابلة للإثراء و المناقشة حسب رأينا تاركا المجال للجمع الكريم إبداء التصور الذي يرونه مناسبا من خلال ما يتناولوه من شرح و تحليل ضمن الوقت المحدد لحصة هذا اليوم كون المحور الثاني قد تمت برمجته في اليوم الثاني من الملتقى.
- حول الإطار القانوني المؤسس للالتزام بتسبيب قرارات المحكمة العليا
لقد ذكرنا في مقدمة هذه المداخلة بأن المحكمة العليا تخضع كباقي الجهات القضائية لقاعدة ضرورة الالتزام بتسبيب قراراتها، ذلك الالتزام الذي يجد مصدره الأول في الدستور ثم في القوانين الإجرائية و الذي يجب أن يكون مطابقا للمنطق القانوني و القضائي، ويستشف هذا الالتزام من منهجية تحرير القرار و مضمونه المنوه عنهما في النقطة القانونية التي قطعت فيها المحكمة العليا، إذ أن قاضي المحكمة العليا لا يجوز له الحيدان عن هذا الضابط عند ممارسة سلطته التقديرية كقاضي قانون.
ومنه فان الالتزام بتسبيب الأحكام يقتضي من جهة أخرى أن تقدم الدفوع من طرف الطاعنين وفقا للشروط الوارد في القوانين الإجرائية حيث أن المتقاضيين لا يملكون الحق المطلق في المطالبة بتأسيس التسبيب على ما لم ينص عليه المشرع في المواد القانونية المحددة لأوجه الطعن سواء في حالة القبول أو الرفض.
ومن الناحية العملية فإن الالتزام بالتسبيب يجب أن يفرغ في قالب قانوني وفقا لقواعد الصياغة القانونية ويحرر بذلك القرار بأسلوب يعتمد على الدقة في التعبير باختيار المصطلحات التي تفيد المعنى القانوني الذي لا يقبل التفسير أو التأويل، وبالتالي تجنب التكرار و نقل ما جاء في دفوع الأطراف الطاعنة حرفيا بل الاعتماد على التلخيص للفكرة المطروحة و صياغتها و إفراغها في ظل ما يفيد الوجه المثار ودون أن ينصاع القاضي إلى خلق حالة قانونية لم يتناولها المشرع في تعريفه للوجه محل المناقشة، وعلى هذا الأساس ينبغي العمل على ضبط النماذج التي من شأنها أن تعبر عن كافة الجوانب التي يتناولها الوجه المثار باعتبار أن قاضي النقض يراقب تطبيق القانون ولا دخل له في الوقائع التي تتعلق بالدعوى والتي سبق مناقشتها من طرف الهيئات الفاصلة في الموضوع، وما تتمتع به هذه الأخيرة من سلطة تقديرية لا تخضع لرقابة محكمة النقض.
وينحصر الإطار القانوني المؤسس لالتزام تسبيب قرارات المحكمة العليا في النصوص التالية:
1 ــ الدستور المواد 166 ،168 ،169 ، 171 و 179 .
2 ــ قانون الإجراءات المدنية المواد 277 ،285 ،358 ، 364 ، 365 ، 366 .
3 ــ قانون الإجراءات الجزائية المواد 379 ، 500 ،524 .
باستقراء أحكام المواد السالف ذكرها يتضح جليا بأن المشرع قد وضع مسطرة قانونية ملزمة للقاضي حال إصداره للأحكام و القرارات في قواعد دستورية و قانونية بداية من وجوب تعليل الأحكام و الأوامر القضائية وحماية المتقاضي في أي تعسف يصدر عن القاضي باعتبار أن الأحكام تصدر باسم الشعب الجزائري.
وخول للمحكمة العليا حق تقويم الأعمال (القضائية) للجهات القضائية العادية والسهر على احترام القانون، لكن هذه الوظيفة مقترنة بمفهوم التسبيب باعتباره وسيلة للرقابة، على الأحكام و القرارات القضائية إضافة إلى كونه أداة بواسطتها يتم تحقيق سلطة هيئة النقض، كما أما التسبيب الصحيح و المؤسس يعطي للقرار آو حكم حجيته بالنظر إلى منطوقه إذ لا قيمة للمنطوق ولا وجود له بدون تأسيس و تسبيب قانوني.
والجدير بالإشارة أن الإطار القانوني للالتزام بالتسبيب يفيد و يؤكد وظيفة المحكمة العليا كهيئة نقض في الرقابة على صحة تطبيق القانون على الوقائع المطروحة على محكمة الموضوع التي أصدرت الحكم أو القرار محل الطعن و أن هذه الوظيفة تشمل الرقابة على القواعد القانونية برمتها سواء كانت إجرائية أو قواعد موضوعية، وتنصرف هذه الرقابة إلى تحقيق المصلحة العامة من خلال إزالة الخلاف في تفسير القانون و تطبيقه على حد سواء.
كما أن الالتزام بالتسبيب يجد أساسه في مفهوم الطعن بالنقض والذي لا يكون إلا لأسباب تتعلق بالخطأ في تطبيق القانون وبالتالي فإن اثر الطعن بالنقض يشمل ما ورد في صحيفة الطعن ويستمد هذا الالتزام ماهيته من كون المحكمة العليا ليست درجة من درجات التقاضي إلا ما استثني بنص خاص سواء تتعلق الأمر بالمواد المدنية أو الجزائية.
حول سلطة القاضي في هيئة النقض كأساس للالتزام بالتسبيب :
إن المنطق القانوني و القضائي يتطلب من القاضي الاحتكام إلى النظام القانوني الذي يمارس وظيفته في إطاره إذ يجب عليه أن يعمل على أن يؤسس عمله على تكييف قانوني صحيح مبني على تقدير الشروط الواقعية و القانونية للنزاع محل الطعن ويشكل هذا التقدير مصدر الالتزام والسلطة في تسبيب القرار أو الحكم الذي يصدره دون أن تكون هذه السلطة متسعة إلى حد الإطلاق.
ومن ثمة وجب على قاضي المحكمة العليا بالنتيجة أن يبين المواد التي أسس عليها التقدير عن طريقة تحديد الأسباب التي تشكل الشروط القانونية لصحة القرار.
خاتمة :
خلاصة لما سبق يمكننا القول أن أسس الالتزام بتسبيب قرارات المحكمة العليا ينحصر في حقيقة التسبيب كالتزام دستوري وقانوني و يتطلب هدا الالتزام التعبير عنه في إطار قانوني يحدد نطاقه طبقا للقواعد المسطرة التي تبين الشروط الواجب توفرها لصحة التسبيب منها على الخصوص :
1 ــأن يؤسس التسبيب على الوجود والكفاية والمنطق القانوني .
2 ــ أن يفرغ التسبيب في قالب يفيد دور المحكمة العليا كمحكمة قانون .
3 ــ أن لا يتجاوز التسبيب حدود سلطة قاضي النقض في الرقابة على مدى صحة تطبيق القانون .
وفي الأخير نشير إلى أن مسألة تسبيب القرارات و تحريرها كعملية تقنية في ضوء التوجهات الجديدة الرامية إلى رقمنة العمل القضائي للمحكمة العليا يبقى مشروع يستوجب الاستفادة من الخبرات في إطار التعاون الدولي و العمل على تجسيده وفقا لواقعنا القضائي وما هو مسطر من برامج للنهوض بالقطاع و تطويره.
والله ولي التوفيق
و السلام عليكم ورحمة الله و بركاته.